وليد خازندار
مقاطع ليل
2020
I
ضوء غير موثوق
الليل الرهينة
الليلُ الرهينةُ
المجروحُ قبل أيَّةِ أغنية.
ليلُنا، ظِلُّ حلْكةِ النهار.
لا نكفُّ نقولُ هناكَ أملٌ
لكنَّهُ يتخفَّى
يلبسُ مقطعاً من هذا الليل.
من ذا يُصَدِّقنا بَعْدُ
ويمنحُ نفْسَهُ لأملٍ يتنكَّرُ كُلَّ مَرَّة؟
يقطع الطائر بين العمارات
يقطعُ الطائِرُ بين العمارات
خفيضاً، آخذاً شِمالَهُ
في سرعةِ من لهُ بيتٌ في الجوار.
والكلابُ تأتي
حينَ تصيرُ الظلْمَةُ أكثر.
الحِبالُ اللامرئِيَّةُ
السادةُ المعتمون.
لا شيءَ تَغَيَّرَ منذ بيوتِ النورِ الممكن.
سائقُ الأُجرةِ في وقتِهِ
في موقفِهِ الفارغِ، ينتظرُ المسافات.
المحطَّةُ لم تعد هُنا.
المحطة راحت
المحطَّةُ راحَت.
جاءَ سوقٌ بحديقةٍ وأدوارٍ ومطاعم.
يعمل فيهِ مهاجرونَ
من الفجرِ إلى نصفِ الليل.
ىنامونَ في المخازنِ والمطابخ.
تنغلقُ الأبوابُ عليهم من الخارج.
نسمع صيحاتٍ أحياناً.
تكونُ اشتعَلَتْ بهم نارٌ
أو اكتشفوا لصوصاً، أو يحلمون.
جنائن المنازل
جنائنُ المنازلِ الأماميَّةُ
ومداخلُ العماراتِ، صارت دكاكين.
تنباعُ فيها أشياءُ غاليةٌ بأسعارٍ رخيصة.
المقهى ابتلعَ محلَّاتٍ على جانبيهِ
صارَ لا ينام.
يتقلَّبُ الليلَ كُلَّهُ بالزبائن.
لا يعلِّقُ أحدٌ على نشرةِ الأخبارِ.
مهاجرون
مهاجرونَ مَرُّوا من هُنا
وأكملوا هجرتَهم.
صاحبُ المخبزِ
على زاويةِ الشارعِ
أغلقهُ وعاد إلى بلادِهِ.
أقامَ سنيناً بيننا
وأحببنا روحَهُ.
لم تصلنا منهُ رسائلُ، مثلَما وَعَد.
بناية بابها حديد
أدخلُ في منامي بنايةً بابُها حديد.
تقولُ مهاجرةٌ
الدنيا ظلامٌ، أسمعُ أصواتاً
تشدُّني أيدٍ لا أراها، تلمعُ سكِّينٌ كبيرة.
نصحو علىها تجري من جدارٍ إلى جدار
تقول مهاجرةٌ تنامُ إلى جوارِها
تحاولُ فتحَ البابِ المغلوقِ علينا
نمسكُها فتصيحُ
يمكن أنَّها ترى غولاً أو ذئاب.
الظلمة وقتهم
الظُلْمَةُ وقتُهم
نعرفُ من ونحن صغار.
الدقَّاتُ العنيفةُ والجرسُ معاً
كسرةُ البابِ إن لم نفتح.
ما سرقوهُ من عمرِهِ
وما سوفَ من أعمارِنا
عرفناهُ من كلامِهِ عنهم.
أمّا الأغلى من كُلِّ شيءٍ
الأقوى من حجارةٍ كريمةٍ
ما يجيئونَ أصلاً ليكسروه
فكانَ علينا أن نجدهُ في أنفُسِنا.
المساء تغيّر
المساءُ تَغَيَّر.
لم يعد ينحتُ أخيلةً أليفةً
بين البابِ والشجرة.
يتأخَّرُ طائرٌ تكونُ في الأمرِ كناية.
إنْ حَوَّم ثُمَّ توقَّفَ
ينظرُ إلى جهةٍ هي نفْسِها
يكونُ بيتُهُ قد انسرَق.
البابُ شجرةٌ في الأصلِ
لهذا تحيطُ بِهِ الهواجس.
خطوات ذئب
خطواتُ ذئبٍ في النظرةِ الوحيدة.
طيورٌ في ضبابٍ خفيفٍ
بيضاءُ، كأنَّها تائهة.
غيومٌ تتكئُ على الرياح.
تلالٌ في النظرةِ ابتعدَت.
أشرعةٌ تبتكرُ الجهاتِ
تفسِّرُ قلبَك.
الأغاني القديمة
الأغاني القديمةُ
السنينُ المُراقة.
جمراتٌ في الموقدِ الذي تَرَيَّثَ
قليلةٌ لكنْ ساخنة.
مَرَّ أبناءُ سبيلٍ وكانوا مُتْعَبِينَ
أكلوا لقمةً معنا
وأكملوا السهر.
كانوا يعرفونَ أُغنيةً جديدةً عن الأمل.
سهروا مطلعاً
سهروا مطلعاً
أو مطلعينِ، ربَّما
من الليلِ وعادوا.
تركوا لنا صمتاً قوياً بين المقاطع.
كان ضوءٌ غيرُ موثوقٍ
يأخذُ الجهةَ التي أخذوها إليه.
صار يلزمُ أن نغيِّر في كلامِ الأغنية.
ما كان في انتظارهم أحد
ما كانَ في انتظارِهم أَحَد.
لا وردةٌ خَرَجَتْ
ولا إكليلُ عزاء.
النسيانُ في الشوارعِ
يأخذُ أسماءَهم وأسبابَ السفَر.
لم يَدُر مفتاحٌ في أُلفةٍ في أيِّ باب.
جلسوا على حقائبِهم
تحتَ غيمةٍ كبيرةٍ
تقطرُ أعمارُهم على العتبات.
جهامة الشبابيك
أمرٌ يعود إلى جهامةِ الشبابيكِ، ربَّما
إلى الأبوابِ في انغلاقِها
صمتِ البيوتِ
أو الشجرِ الواجمِ قربَ العناوين.
أعودةٌ في حلكةِ الخروجِ ذاتِها
لا بُعْدُ الطريقِ
ولا مشقَّةُ السفر؟
الذين عادوا باكراً أربكوا الثمار.
II
الباب الضيّق المكسور
تصبح معهم
تصبحُ معهم.
جذورُ فضائِهم مغروسةٌ في هذهِ اليابسة.
ترى السماحةَ عفواً
مهما تأخَّرْتَ
مهما لم تذهب.
تَرَفٌ، حريَّةٌ أقصى
حينَ تصلُ إليهم من هذِهِ الطريق.
أولادُهم على قشرة الأرض
أولادُهم على قشرةِ الأرضِ فَوْق.
يقولونَ مرحباً.
النبرُ في قبضةِ المصافحة.
هل ستبقى معنا؟
لهم خِبْرَةٌ في القلوب.
أُنْظُرْ إلى السعادةِ الغريبةِ في وجوهِهم.
يرثونَ كُلَّ ما انسرقَ.
يشعلون نارهم ويسهرون
يشعلونَ نارَهم ويسهرون.
تصبحُ مكشوفاً بينهم
في ليلِ المنذورين.
حكاياتٌ عن ظهرِ غَيْبٍ
وتستزيدُهم.
إنْ تَرْوِها نبرِهم
لا تستطيعُ أن تُكْمِل.
لم تخرج راية بيضاء
لم تخرج رايةٌ بيضاءُ واحدةٌ
من البيوتِ التي هَوَت.
لم يُهْزَموا، يقولونَ
الشبابيكُ وقَفَتْ حتَّى الصباح.
والإخوةُ أرسلوا إليهم
مع الخيامِ، نجدَةً:
ملابسَ ليس فيها أحدٌ
أغطيةً ثقيلةً، وحلوى.
النجدة لن تصل
النجدةُ لن تصل.
يعرفون هذا وأكثر.
فراغٌ ساكنٌ على الجسرِ لم يتدمَّر بعد.
بَقِيَتْ جدرانٌ وأَسْقُفٌ
واقفةٌ في ظلالٍ قويَّة.
أشجارٌ قريبةٌ من البيوت.
الطيورُ غادَرَتْ إلى التلال.
من هناك تمكنُ رؤيةُ الذئاب.
هل يعبر الجسر إخوة
"هل يعبرُ الجسرَ إخوةٌ
آخرَ الأمرِ
في جلودِ خرافٍ كي لا ينكشفوا؟
علينا أن نحبسَ أنفاسَنا
في انتظارِهم
أن ندعو لهم بأن يصلوا سالمينَ
وأنْ ننجو معاً.
وعلينا أن ننتبه:
قد يعبرُ الجسرَ أعداءٌ في جلودِ الإخوة".
يمكن أن يعوي فراغ
يمكنُ أن يعوي فراغٌ
في أيَّةِ لحظةٍ
في هذِهِ الحجرات.
أعمارُهم مُعَلَّقةٌ على جدرانِها
لهم فيها صباحاتُ خيرٍ
ومساءاتُ نور.
قد يغمضونَ عيونَهم عليها
وتكونُ آخرَ ما يرون.
تهوي لهم صُوَرٌ على الأرضِ
ينظرون منها إلى الفراغ.
ولد من جهة المنازل
ولدٌ من جهةِ المنازلِ التي انقصَفَت.
خُضارْ، ينادي، فواكه.
يتوقَّفُ عندَ المدرسةِ ويسكت.
الصفوفُ انطَبَقَتْ جدرانُها
وسقوفُها عليها
قال رجلٌ للمراسل.
لم يخرج أحدٌ من الطابقِ الأرضي.
لحمٌ مُعَلَّبْ
يصيحُ الولدُ، يدفعُ عربَتَهُ
برتقالٌ دَمُ الزغلولِ، عسلٌ أَسْوَد.
طفل وامرأة ورجل
طفلٌ وامرأةٌ ورجلٌ
من البابِ الضيِّقِ المكسور.
لا شمعةٌ مُضاءَةٌ
أو يمكنُ أن تُضاء.
صحنُ الصدقاتِ فارغٌ
طاولةُ التقدمةِ اختَفَت.
وجوهُ القدِّيسينَ
العيونُ الراضيةُ، الخدودُ المتَوَرِّدةُ
ليست على الجدران.
رفعوا صلاةً بطيئةً إليهِ
السيدِ الغفورِ حتى الساعةِ الأخيرةِ
من سيحملُ عَنَّا
هذِهِ الخطايا كُلَّها.
يغادرون من الباب نفسه
يغادرونَ من البابِ نفْسِهِ
الضيِّقِ المكسور.
يقطعونَ الشارعَ
نحوَ الأزِقَّةِ خلفَ البيوت.
لا نجمٌ من الشرق.
الظُلْمَةُ من باقي الجهات.
يسيرونَ في نعومةٍ غريبةٍ بين الحُفَر.
يقتربونَ من البحرِ
من وجهِ الماءِ نحو السفينة.
موجة البرد لم تنحسر
موجةُ البردِ لم تنحسِر
ليس مثل ما أخبروه.
الثلجُ ينزلُ وجهَ الصبحِ ساعاتٍ
تنحني لهُ الأشجار.
يراها من الشبَّاكِ
مشدودةً إلى جذوعِها
تكادُ تيأس.
رعدٌ وقصفٌ يجتمعانِ أحياناً
فلا يعودُ يعرفُ ما الخبر.
الأولاد طوّلوا
الأولادُ طَوَّلوا بزوجاتِهم وأحفادِهِ
ربَّما لن يرجعوا.
شهرانِ ثلاثةٌ، قالَ الكبيرُ، لا أكثر.
صعدوا
وجدوا وَسَعاً وجلسوا.
الشاحنةُ كأنَّها لا تبتعد.
نظروا إليه.
الأحفادُ لوَّحوا بأيدٍ
تشبهُ أجنحةَ العصافير.
شهور وأيّام
شهورٌ وأيَّامٌ
والمقطعُ هذا من الليل.
لا عادوا ولا جاءَ خبر.
كان يمكنُ أن يرسلوا كلمةً
مع الهلالِ أو الصليب.
أو مع أيِّ أحَدٍ من الذين عادوا
يقولونَ الموتُ ولا المَذَلَّة.
تحتَ أيِّ سقفٍ هم الآن؟
أيكونونَ أخذوا مركباً إلى الشواطئ البعيدة؟
كسّر بعدهم كلّ ما ينكسر
كَسَّرَ بعدَهم كُلَّ ما ينكسرُ
قِطَعاً رَتَّبَها عندَ الموقدة:
طقمَ السُفْرَةِ، والجلوسِ
دولابَ ثيابِهِ وثيابِ المرحومةِ
سريرَ نومِهِ معها.
يَمُرُّ بالتسريحةِ
يَظُنُّ لوهلةٍ أنَّهُ أحَدٌ غريب.
أَبْقَى على طاولةٍ وكرسيَّيْنِ
يمكنُ أن يزورَهُ، ربَّما، أحدٌ لم يغادر.
صار يعرف كيف يعيش دونهم
صار يعرفُ كيف يعيشُ دونَهم.
يصفنُ في ما يحترقُ
إلى مقطعٍ متأخِّرٍ من الليل.
يغفو
يجلسونَ كُلُّهم إلى السُفْرةِ ما عداه.
يصحو ويغفو
يغلقونَ حجراتِهم عليهم.
يصحو، لا يعرفُ أن ينامَ
يصفنُ في ما تَبَقَّى.
يتسلَّلُ الأحفادُ إليهِ، يتوسَّدونَهُ.
المرحومةُ تأتي
تتمَدَّدُ لِصْقَهُ، قربَ الرماد.
III
ثقوب في سقف الخيمة
يقطعون الحدود
يقطعونَ الحدودَ من غيرِ أن ينكشفوا
ومسافةَ الجبالِ، والصحراء.
الأمورُ تَسَهَّلَتْ، وصَدَقَ الدليل.
سوف يبدؤونَ حياةً جديدةً هناك.
بل ربّما يستأنفونَ القديمةَ
ولو على نحوٍ أقلّ.
لن ينسوا جيرانهم طبعاً
سيكتبونَ إليهم، ويهاتفونهم أحياناً
بل يمكن أن يرسلوا إليهم نقوداً
إنْ تَيَسَّرَ الحال.
الإخوةُ في انتظارِهم
خلفَ شبابيكِ الزجاجِ القَوِيِّ
والفتحةِ الضيِّقة.
يأخذونَ أوراقَهم
ويطلبون منهم أن يجلسوا هناك.
شهر شهران بالكثير
شهرٌ شهرانِ بالكثير، قال السائقُ
ويعودونَ إلى بيوتِهم.
حارسُ البوَّابةِ أكَّدَ هذا حين وصلوا
يمكنُ حَتَّى أقل.
قطعوا صفوفَ الخيامِ
يحملونَ رقماً طويلاً لخيمتِهم.
أولادٌ يلعبونَ لوَّحوا لهم.
نساءٌ وبناتٌ يطبخنَ شيئاً في قِدْرٍ كبيرةٍ
قالوا تفضَّلوا، فردُّوا بالهَنا.
إمرأةٌ على صندوقِ خشبٍ على الثلجِ
تمضغُ شيئاً، تنظرُ في ثباتٍ إليهم.
ربَّما لأنَّها ليست هُنا
قَضَتْ شهراً أو شهرينِ، يمكن حتَّى أقَلَّ
ثُمَّ عادت إلى بَيْتِها.
عجوز على كتفه كيس خيش
عجوزٌ على كتفهِ كيسُ خيشٍ
في يدِهِ حقيبةٌ
إسمُهُ لا بُدَّ ذاكَ المكتوبُ عليها وعنوانُهُ
يقطعُ بين الخيام.
لا بابَ الآنَ لديهم ليدُقَّهُ إنْ أراد.
لا نافذةٌ يُطِلُّونَ منها عليهِ
يحيُّونَهُ باحترامٍ، يقولونَ تَفَضَّل.
لكانوا ضيَّفوهُ شاياً بِسُكَّرٍ
وتمراً جاءَهم أمسِ من إخوتِهم
شديدَ العزاء.
الطفل والمرأة والرجل
الطفلُ والمرأةُ والرجلُ، قبلَ المغرب.
ولا خيمةٌ فاضية.
لم يقبلوا أن يتفرَّقوا بيننا، قالت امرأةٌ
في الخيامِ التي فيها وَسَع
عزمناهم على ما زادَ من أكْلٍ عندنا فرفضوا.
لكانوا أسعدونا لو قبلوه.
كان يمكنُهم أن يغافلونا بَعْدَها
ويرموهُ للكلاب.
غادروا قبل الفجر
غادروا قبلَ الفجر.
الأرضُ جاءَتْ على غيرِ ما أَلِفوا
وجاءَ البحرُ أقسى.
عيني عليهم
قالت المرأةُ التي تحدَّثَتْ إلى المراسلِ
يمكنُ حتَّى أنَّهم بَعْدُ ما أكلوا.
ظلّوا في عيوننا
ظَلُّوا في عيونِنا، قالت المرأةُ
كُلَّما تبادَلَتْ نظرةً.
رجلٌ جالسٌ كتمثالٍ على حقيبةٍ
إمرأةٌ على حقيبةٍ مثلَ تمثالٍ مجاور.
طفلٌ واقفٌ، يتلفَّتُ ساكتاً.
لو لم يستعجلوا
لكان الإخوةُ أرسلوا إليهم
خيمةً تخفقُ أعلامُهم عليها.
صمت من ساهر
صمتُ مَنْ ساهرٌ
إلى المقطعِ المتأخَّرِ هذا من الليل؟
خيالُهُ على قماشِ خيمتِهِ
جالسٌ، ينظرُ إلى الأرض.
أيفكِّرُ في أن يفعلَ الشيءَ ذاتَهُ
لا يدري بِهِ أحدٌ
إلّا غداً، أو بعدَ يومينِ ثلاثة؟
يكونُ رَمَى عن نفسِهِ ذاكَ الوجودَ الثقيل.
شتاء شرس وأهوج
شتاءٌ شرسٌ وأهوج.
هَوَتْ خيامٌ هَبُّوا يشتمونَ حياتَهم
وأصلحوها.
أطفالُهم ينظرونَ من الأبوابِ القماش.
من عيونِهم أنَّ القساوةَ هذِهِ عليهم
لن تنتصر.
سيقفونَ عليها حينَ ينقلعُ الشتاءُ
يرونَ الكونَ أوضحَ
بينما تنشفُ الدنيا حولَهم.
قد تبدو لهم ثقوب
قد تبدو لهم ثقوبٌ في سقفِ الخيمةِ
لا مرئيَّةٌ
من كثرةِ ما ينظرونَ إليه.
مطرٌ يتوقَّفُ ثُمَّ يسقطُ
كأنَّ فلَّاحينَ مثلَهم
يهزُّونَ الأشجارَ في أوانِها
تسقطُ الثمارُ الصغيرة.
دخانُ ثُفْلِ الزيتونِ يعلو من الخيام.
يتجمَّعُ فوقَها في هيأةِ ذئبٍ كبير.
رعد ولا يرفعون رؤوسهم
رعدٌ ولا يرفعونَ رؤوسَهم.
يهتَزُّ قماشُ الخيمة.
تقومُ واحدةٌ من البنتينِ
تمشي دونَِ أن تصحو
تأخذُ زاويةً، تتمَدَّدُ
ينفردُ انكماشُ وجهِها وتبتسم.
تشدُّ لعبَتَها إليها.
يعودون إلى بيوتهم
يعودونَ إلى بيوتِهم في المنام.
إن ارتاحَ وجهُ الأُمِّ
تكونُ وصلَتْ ربَّما إلى غرفةِ النوم.
إن أخذَتْ نفَساً عميقاً تكونُ في المطبخ.
قد تفتحُ عينيها ثُمَّ تُغْلقهما
إذا نظرَتْ من الشُبَّاك.
يستردُّ وجهُها أساريرَهُ، تحرِّكُ شفتيها
تكونُ تدخلُ غرفةَ البنتينِ
تُتَمْتِمُ شيئاً لنفْسِها بينما تُغَطِّيهما.
إن أغلقَ الأبُ يدَهُ وأدارَها ببطءٍ
مَرَّةً مَرَّتَيْنِ، أكثرَ
يكونُ يفتحُ أبوابَ الحجراتِ
يبحثُ عنها.
الدار سلمت
الدارُ سَلِمَتْ
الجدرانُ والسقفُ وبرجُ الحمامِ
قالتْ امرأةٌ جاءتْ من هناك.
التينةُ قربَ السورِ امتلأَتْ
يتسلَّقُ الأولادُ البابَ الحديدَ إليها.
ما أطيبَهم
قفزوا، سقوا الشجيراتِ لكم.
نَظَّفوا الحديقةَ، أخرَجوا منها الحجارة.
الرافعاتُ تأخَّرَتْ عن منزلِ جيرانِكم.
حاولنا بأيدينا ولم ينفع
لم يخرج منهم أحد.
صَبُّوا لها الشايَ وجلسوا ساكتين.
لا بدّ من وصف بيوتهم
لا بُدَّ من وصفِ بيوتِهم.
لن يكون للبحرِ الذي أخذوهُ معنىً دون هذا.
لهم فيهِ غرقى.
يَرُدُّ الموجُ إليهم أماناتٍ يسكتونَ أمَامَها.
بحرٌ يأخذونهُ سِرّاً
حين يكونُ بريقٌ كفايةً
أو علانيةً
حين تفيضُ الظُّلُمات.
ولا بدّ من وصف البحر
ولا بُدَّ من وصفِ البحرِ الذي يأخذهم.
لن يكتمل لبيوتِهم معنىً دونَ هذا
ثقوبُها في خواطرِهم.
لم يعد نورٌ يُؤْنسُ الشوارعَ
من وراءِ ستائرِها.
الأبوابُ انفتَحَتْ على المصارِعِ
جهةً إلى وجعِ القلبِ
حين يفقدُ المغفرة.
بيوت انهيار ما انبنى
بيوتُ انهيارِ ما انبنى على الجانبينِ
من عمرِ الجميع.
يخرجُ ناسٌ من فراغِها أحياناً
حين تكونُ سُدْفَةٌ أو ظلالٌ
من غيرِ أبوابٍ قريبةٍ تنسمع.
دونَ كثافةِ حضورِهم
مثل جميعِ من ليسوا هُنا.
IV
بلاد المراكب التي تغرق
ماء زهر قويّ يدركها
ماءُ زهرٍ قويٍّ يدركُها.
بلادٌ صيحةٌ مكتومةٌ في الزمان.
نزلَتْ من التلالِ إلى الوادي من أجْلِنا
لأنَّنا نكثرُ
لأنَّنا عُشّاق.
أَكْمَلَتْ وراءنا إلى طريقِ البحرِ فانكَشَفَت ــ
غزاةٌ، تُجَّارٌ ولصوص.
البيوت استدارت إلى الموج
البيوتُ استدارتْ إلى الموجِ
من ذلك الوقتِ.
بناتٌ وأولادٌ وبحّارةٌ حَرَسٌ
دَقَّاتٌ خفيفةٌ على الأبوابِ
على أطرافِ الشبابيك.
إنَّها الإشارةُ
سهرُ الليلِ والنهارِ يملأُ المقاطع.
لنسائها ثمار لاهبة
لنسائها ثمارٌ لاهبةٌ
بلادُ الفصولِ المليئةِ والمواسم.
لأيديهِنَّ العصيَّةِ لمسةُ فجرٍ أخضرَ
زيتونيٍّ، حينَ تلين.
الليلُ في عيونِهِنَّ مُبكِّرٌ
تمكنُ رؤيةُ قلقٍ وحراسةٍ
قلوبُهنَّ سريعةٌ
توازي قلوبَ الرجال.
ليس إلّا من أجل الغرام
ليس إلَّا من أجلِ الغرامِ نزلَتْ غروزٌ هُنا
وارتفَعَتْ أعمدة.
يملأُ البنَّاؤونَ الحجراتِ بالغِناءِ
قبلَ أن تكتمل.
يسترسلونَ في الأعمدة.
حديدٌ مُسَلَّحٌ أعْلى من صَبَّةِ السقفِ
يخبِّئونَ فيهِ طوابق.
رفَّةُ عمرٍ ليس إلَّا
ويستأنفُ أطفالٌ صيحتَها
بلادُ الوصايا.
الذين أسرفوا في صفات الشمس
الذين أَسْرَفوا في صفاتِ الشمسِ
الدروبِ السهلةِ النازلةِ
أشرقَتْ في كلامِهم.
حملوا مناجلَ الآباءِ القديمةَ ذاتَها
سِرّاً وعلناً إلى الحقول.
السنابلُ ابتعدتْ كلَّما اقتربوا
عادوا بحزمٍ كثيفةٍ من العتم.
دروب أيديهم
دروبُ أيديهم
غيْرُها لا يصل.
تلالٌ محفورةٌ يرون منها جهاتٍ
لامشدودةً إلّا عليهم.
أقربُ، آنذاكَ
إلى السماءِ كما يعرفونِها.
لهم أنفاسٌ أخيرةٌ
يلفظونها عندَ أقربِ ضربَةِ معولٍ إليها
بلادُ المصائر.
مواعيدها أُلغيت
مواعيدُها أُلْغِيَتْ
يذهبونَ في أوقاتِها.
الصمتُ من لوازمِ الوصول.
الإصغاءُ لكُلِّ نأمةٍ إلى الفجرِ
الوقتُ، حين تكثرُ المخاوف.
من لا يرجعُ
يكونُ اشتَدَّ عليهِ الحضور.
هذه البلاد مسروقة
هذهِ البلادُ مسروقةٌ
مسروقونَ معها
عذابُها ليس إلَّا علينا.
لنا فيها أملٌ عجوزٌ منذُ طفولتِنا
ويأسٌ قويٌّ يساندُهُ
كبيرٌ، يعرفُ الطريق.
حقولها على الماء المسروق
حقولُها على الماءِ المسروق.
ماءُ نارٍ تسقي أشجارَها.
ثمارُ الأشجارِ هذِهِ ستكونُ الأكثرَ ضراوةً
في هناءِ المواسمِ المرجوَّة.
نحنُ مقطوعونَ من هذهِ الأشجار.
واضحةٌ في أسمائِنا، وعلى وجوهِنا
ينظرُ الواقفونَ بأسلحةٍ إلينا
كأنَّنا ثمارٌ غريبةٌ ــ
قطافٌ مريرٌ يملأُ السنين.
عسف وجمال في التفاتة واحدة
عسفٌ وجمالٌ في التفاتةٍ واحدةٍ
هذِهِ البلاد.
جارحةٌ مثلَ طائرٍ مجروح.
الحُبُّ يملأُها ولا تكتفي
لا تَرِقُ إلّا حين ينخفضُ الغِناء.
كُلُّ ليلةِ خوفٍ ليلةُ حُبٍّ
كأنَّها الأُولى.
أيّة بلاد، كلّ هذا دمها
أيَّةُ بلادٍ، كُلُّ هذا دمُها.
دمُ النساءِ والرجالِ في إرثِ العائلة.
دمُ البناتِ والأولادِ
تجري بِهِ الأيّام.
يُهاجرُ، يرتمي على الرملِ
بملابسِ لاوصولِهِ، أنيقاً
كما تكونُ عليهِ القرابينِ.
دمنا من العروق كلّها
دمُنا، من العروقِ كُلِّها
دمُ الأضاحي.
أهلُ البيوتِ نبنيها من أجل صباحِنا ومسائِنا
نفتحُ أبوابَها على الخرابِ، إنْ سلِمَتْ
نغلقُها علينا
أيَّةُ لحظةٍ قد تكونُ الأخيرة.
دَمٌ يتوزَّعُ في محافلَ تلتوي بِها
بلادِ الشمسِ والعناصر.
يصبحُ اسمُها غريباً
قربَ صحنِ الصدقات.
أيستجدي أحد بلاده؟
أيستجدي أحدٌ بلادَهُ؟
نحنُ ندفعُ فِدْيتَها كاملةً كُلَّ يوم.
تُكَلِّفُنا ما نقدرُ عليهِ، وأكثرَ
ما لا يزولُ
ما لا يمكنُ استردادُهُ حتَّى بها
ما من أجْلِهِ تكونُ البلاد.